
اقتصاديات الفوضى في غاردينا
كتب أ. د. عبدالرزاق بني هاني – حينما أفكر في رواية “غاردينا”، المدينة – الدولة التي تخيلتها على مدى عقدين من الزمن، أشعر كأني أعيش تجربة فريدة تلتهم كل حواسي. فغاردينا مدينة لا تعرف الهدوء، بل هي صرخات وضوضاء تتردد في كل أرجائها. شرايين حياتها ليست التجارة التقليدية، بل هي صخب يائس يعصف بالشوارع الضيقة، التي أصبحت أسواقًا دائمة للحركة والضجيج. عند شروق كل يوم، لا تسمع زقزوق العصافير، بل دوي محركات الديزل المنبعث من شاحنات “الفان” وسيارات “البيك أب”، بينما البائعون يجوبون بالشوارع ويساومون على الخضراوات والفواكه بأصوات مجلجلة تتنقل بين الأزقة.
يبرز في هذا الفضاء، رجالٌ يجرون عربات يدوية أو سيارات بسيطة، ينادون بأصواتهم الجهورية لتقديم خدماتهم، مذكرين الجميع بوجودهم. إنهم نبّاشو الأدوات المنزلية، يتجولون في الشوارع ويجمعون ما يمكن أن يُستفاد منه، مجسدين طابعًا فوضويًا ينعكس على حياة السكان. عالمهم هو رماد الاستهلاك، حيث تسود ثقافة الفوضى بشكل يجعل من المدينة تجسيدًا حقيقيًا للاقتصاد غير الرسمي.
الفوضى كجزء من الحياة اليومية
إن الفوضى في غاردينا لا تقتصر على الأنشطة التجارية فقط، بل تغلغلت في كل جوانب الحياة اليومية. فمع مرور الوقت، يتم قياسه بأصوات مختلفة، وفي كل صباح، تتحول شوارع المدينة إلى مسرح قاسٍ، حيث تنطلق الحافلات المدرسية، تصارع الزحام في محاولة للوصول إلى وجهتها بكل حدة، فتتشكل مشاهد تعكس مشاعر الهيمنة والضياع. ومن ثم تأتي الأمسيات لتضيف بعدًا آخر من الفوضى، حيث يتجمع الناس حول محلات تجارية صغيرة، تعكس صور البضائع وأسعارها المتنافسة، بينما يُفضل البعض تأديتهم عروضًا ترفيهية وسط ضجة لا تنقطع.
إن النخبة المثقفة في غاردينا تتواجد في خفاء، بينما تُحتفى الفنون البصرية بأشكالها البسيطة. تكتظ المدينة بمساحات فارغة تقابل صرخات البائعين، والراقصات المتوقع أن يجبن الجمهور ويكتسحنهم بفتنة، بينما يُهمل العلماء والمفكرون في زوايا تلك المدينة الصاخبة. إن الفكر يصبح ضربًا من الترف، بينما تتقاسم الأجساد الحظ والسعادة في مجتمعات تفضل الشكل على المعنى.
غاردينا تمثل حالة متجددة من الفوضى، حيث كل عنصر يمد الآخر، ولذا تتشكل مفارقات ثقافية، تؤدي إلى نظام متكامل ولكنه متصدع، نظام يدرّ الفوضى ويؤكد على الهيمنة الاجتماعية. إن الحياة هنا تعني السير في نفق من الدمار، ولكن يبقى الأمل في إصلاح هذا المشهد، فوسط كل هذا يمكن للعقول اللامعة أن تظهر، مسلطة الضوء على الحقائق المظلمة، ومن خلال الفهم والتحليل يمكننا أن نساعد غاردينا على استعادة هويتها الحقيقية.